تفسير سورة الفاتحة
بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}
القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ نفس البداية التي أرادها الله تبارك وتعالى وهي أن تكون البداية بسم الله. وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت [color=blue]{[/color]اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ}. وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون.. هي بسم الله. ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية.
ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن.. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى: {اقرأ}.
واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان.. إما حافظا لشيء يحفظه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشيء يقرؤه.. وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه.. وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب.
وعندما قال جبريل: {اقرأ}.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بقارئ». وكان الرسول عليه الصلاة والسلام منطقيا مع قدراته. وتردد القول ثلاث مرات.. جبريل عليه السلام بوحي من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول {اقرأ} ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أنا بقارئ». ولقد أخذ خصوم الإسلام هذه النقطة.. وقالوا كيف يقول الله لرسوله اقرأ ويرد الرسول ما أنا بقارئ.
نقول إن الله تبارك وتعالى.. كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة، ولكن قدرة الله هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما للبشرية كلها إلى يوم القيامة.. لأن كل البشر يعلمهم بشر.. ولكن محمد صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى. ليكون معلما لأكبر علماء البشر.. يأخذون عنه العلم والمعرفة. لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1-2] أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق من عدم سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله.. وسيكون ما تقرؤه وأنت النبي الأميّ إعجازا.. ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك فقط لحظة نزوله. ولكن للدنيا كلها وليس في الوقت الذي ينزل فيه فقط، ولكن حتى قيام الساعة، ولذلك قال جل جلاله: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم} [العلق: 3-4]. أي أن الذي ستقرؤه يا محمد.. سيظل معلما للإنسانية كلها إلى نهاية الدنيا على الأرض.. ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} مستخدما صيغة المبالغة. فهناك كريم وأكرم.. فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله.. لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك.. أما إذا كان الله هو الذي سيعلمك.. يكون (أكرم).. لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى.
والحق يريد أن يلفتنا إلى أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة، ولكنه يقرؤه باسم الله، ومادام بسم الله.. فلا يهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بشر أو لم يتعلم. لأن الذي علمه هو الله.. وعلمه فوق مستوى البشرية كلها.
على أننا نبدأ أيضا تلاوة القرآن بسم الله.. لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزله لنا.. ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه.. فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] لذلك أنت تقرأ القرآن باسم الله.. لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة.. ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل باسم الله.. لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه. فحين نزرع الأرض مثلا.. لابد أن نبدأ بسم الله.. لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها.. ولا خلقنا البذرة التي نبذرها. ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع.
إن الفلاح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع.. إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله.. بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع.
والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار.. ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة. ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء.. فكأنه حين يبدأ العمل باسم الله، يبدؤه باسم الله الذي سخر له الأرض.. وسخر له الحب، وسخر له الماء، وكلها لا قدرة له عليها.. ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته.. فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا باسم من سخرها له.
والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك. فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون.
ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية. بل هي تعمل بقدرة خالقها. الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها.
الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه. ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أي انسان على أن يستأنسها. ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا.. لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمهما.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلهما مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء، ولم يخضع لنا ما شاء. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71-72] وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لها وليس بقدرتنا.
يأتي الله سبحانه وتعالى إلى أرض ينزل عليها المطر بغزارة. والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون. فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلى خطأ هذا الكلام. بأن تأتي مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون.. فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذي عطلها؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين إن شاءت جعلتها تعمل وإن شاءت جعلتها لا تعمل.. اذن فكل شيء في الكون باسم الله.. هو الذي سخر وأعطى.. وهو الذي يمنح ويمنع. حتى في الأمور التي للإنسان فيها نوع من الاختيار.. واقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50] والاصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى.. هذا هو القانون.. ولكن القوانين لا تعمل الا بأمر الله.. لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق.. ولكنها إرادة خالق القانون.. ان شاء جعله يعمل.. وان شاء يبطل عمله.. والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكنه هو الذي يحكمها.
وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على ان يجعل القوانين تفعل او لا تفعل.. فهو قادر على ان يخرق القوانين.. خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام.. كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاج إليه.. ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها.
وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها.. {قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة.. مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات.. ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون.. هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي تتناسب مع قدرات من يحصل عليها.
الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه.. وترى الابنة ترتدي ما هو أكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها.. ولو سألت الأم الأب أو الابنة من أين لك هذا؟ لما فسد المجتمع.. ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام.
بماذا ردت مريم عليها السلام؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] اذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون.. لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلى طلاقة القدرة.. فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها الا طلاقة القدرة.. فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا.. هذه قضية ضد قوانين الكون.. لأن الانجاب لا يتم الا وقت الشباب، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان.. فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا.. لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب.. فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز.. هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر.. ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضده.. ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان.. ورزق زكريا بابنه يحيى.
إذن كل شيء في هذا الكون باسم الله.. يتم باسم الله وبإذن من الله.. الكون تحكمه الأسباب نعم ولكن ارادة الله فوق كل الأسباب.
أنت حين تبدأ كل شيء باسم الله.. كأنك تجعل الله في جانبك يعينك.. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله.. لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى.. والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة.. فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلى قدرة الله وإلى عونه وإلى رحمته.. فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات.. كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها.. كأن نقول باسم الله القوي وباسم الله الرازق وباسم الله المجيب وباسم الله القادر وباسم الله النافع.. إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها.. ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول بسم الله بسم الله بسم الله الجامع لكل هذه الصفات.
على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله وإنما يريدون الجزاء المادي وحده.. إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله باسم الله.. وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله.. كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع.. له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة.. ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان.
بل الحياة الحقيقية هي الآخرة.. الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية.. بقدر عطاء الله في الدنيا.. والذي في باله الله يأخذ بقدر عطاء الله في الدنيا والآخرة.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة وَهُوَ الحكيم الخبير} [سبأ: 1] لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا.. ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة.. فلله الحمد في الدنيا والآخرة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بباسم الله الرحمن الرحيم أقطع».
ومعنى أقطع أي مقطوع الذنب أو الذيل.. أي عمل ناقص فيه شيء ضائع.. لانك حين لا تبدأ العمل باسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك.. وحين لا تبدأ العمل باسم الله.. فليس لك عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا.. وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة.. فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة. فأقبل على كل عمل باسم الله.. قبل أن تأكل قل باسم الله لأنه هو الذي خلق لك هذا الطعام ورزقك به.. عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح.. عندما تدخل إلى بيتك قل باسم الله لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت.. عندما تتزوج قل باسم الله لانه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك.. في كل عمل تفعله ابدأه باسم الله.. لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى.. فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله باسم الله.. اذا أردت أن تسرق أو أن تشرب الخمر.. أو أن تفعل عملا يغضب الله.. وتذكرت بسم الله.. فإنك ستمتنع عنه.. ستستحي أن تبدأ عملا باسم الله يغضب الله.. وهكذا ستكون أعمالك كلها فيما أباحه الله.
الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه باسم الله.. فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله.. والله هو الاله المعبود في كونه.. ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به.. ولا نقدم على ما نهى عنه.. فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله في العبادة.. وبطاعته في افعل ولا تفعل.. وهذا هو المقصود أن تبدأ قراءة القرآن بسم الله الذي آمنت به ربا وإلها.. والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما نهى.. والذي بموجب عبادتك لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيه.. والذي خلق وأوجد ويحيي ويميت وله الأمر في الدنيا والآخرة.
والذي ستقف أمامه يوم القيامة ليحاسبك أحسنت أم أسأت.. فالبداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى.
بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله.. وقد عصيت وقد خالفت.. نقول اياك أن تستحي أن تقرأ القرآن.. وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت.. ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التي نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدؤه باسم الله الرحمن الرحيم.. فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصي.. بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها.. ويطلب منه أن يتوب وأن يعود الي الله.. فيغفر له ذنبه، لأن الله رحمن رحيم.. فلا تقل أنني أستحي أن أبدأ باسم الله لأنني عصيته.. فالله سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود الي حظيرة الايمان وهو رحمن رحيم.. فاذا قلت كيف أقول باسم الله وقد وقعت في معصية أمس.. نقول لك قل باسم الله الرحمن الرحيم.. فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه.. وهو سبحانه وتعالى الذي يغفر الذنوب جميعا.
والرحمة والرحمن والرحيم.. مشتق منها الرحم الذي هو مكان الجنين في بطن أمه.. هذا المكان الذي يأتيه فيه الرزق.. بلا حول ولا قوة.. ويجد فيه كل ما يحتاجه إليه نموه ميسرا.. رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل.. انظر إلى حنو الأم على ابنها وحنانها عليه.. وتجاوزها عن سيئاته وفرحته بعودته اليها.. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي: (أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته).
الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو علينا ويرزقنا.. ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر.. ونعصي فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه.. ولا يهلكنا بما فعلنا. ولذلك فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم.. لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا.. نرفع أيدينا إلى السماء.. ونقول يا رب رحمتك.. تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا. وبذلك يظل قارئ القرآن متصلا بأبواب رحمة الله.. كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود اليه.. فمادام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا.
على أننا نلاحظ أن الرحمن الرحيم من صيغ المبالغة.. يقال راحم ورحمن ورحيم.. اذا قيل راحم فيه صفة الرحمة.. وإذا قيل رحمن تكون مبالغة في الصفة.. وإذا قيل رحيم تكون مبالغة في الصفة.. والله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.
صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف.
وإياكم أن تفهموا أن الله تأتيه الصفات مرة قليلة ومرة كثيرة. بل هي صفات الكمال المطلق.. ولكن الذي يتغير هو متعلقات هذه الصفات.. اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] هذه الآية الكريمة.. نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى، ثم تأتي الآية الكريمة بقول الله جل جلاله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] نلاحظ هنا استخدام صيغة المبالغة.. (ظلام).. أي شديد الظلم.. وقول الحق سبحانه وتعالى: (ليس بظلام).. لا تنفي الظلم ولكنها تنفي المبالغة في الظلم، تنفي أن يظلم ولو مثقال ذرة.. نقول انك لم تفهم المعنى.. ان الله لا يظلم أحدا.. الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد.. والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد.. والعبيد هم كل خلق الله.. فلو اصاب كل واحد منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الاعداد الهائلة.. فإن الظلم يكون كثيراً جداً، ولو أنه قليل في كميته لأن عدد من سيصاب به هائل.. ولذلك فإن الآية الاولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى. والآية الثانية نفت الظلم أيضا عن الله تبارك وتعالى.. ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة.
نأتي بعد ذلك إلى رحمن ورحيم.. رحمن في الدنيا لكثرة عدد الذين يشملهم الله سبحانه وتعالى برحمته.. فرحمة الله في الدنيا تشمل المؤمن والعاصي والكافر.. يعطيهم الله مقومات حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم، يرزق من آمن به ومن لم يؤمن به، ويعفو عن كثير.. اذن عدد الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا هم كل خلقه. بصرف النظر عن ايمانهم أو عدم ايمانهم.
ولكن في الآخرة الله رحيم بالمؤمنين فقط.. فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله.. اذن الذين تشملهم رحمة الله في الآخرة.. أقل عددا من الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا.. فمن أين تأتي المبالغة؟.. تأتي المبالغة في العطاء وفي الخلود في العطاء.. فنعم الله في الآخرة اكبر كثيراً منها في الدنيا.. المبالغة هنا بكثرة النعم وخلودها.. فكأن المبالغة في الدنيا بعمومية العطاء، والمبالغة في الآخرة بخصوصية العطاء للمؤمن وكثرة النعم والخلود فيها.
لقد اختلف عدد العلماء حول بسم الله الرحمن الرحيم.. وهي موجودة في 113 سورة من القرآن الكريم هل هي من آيات السور نفسها.. بمعنى أن كل سورة تبدأ {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} تحسب البداية على أنها الآية الأولى من السورة، أم أنها حسبت فقط في فاتحة الكتاب، ثم بعد ذلك تعتبر فواصل بين السور.
وقال العلماء أن {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} آية من آيات القرآن الكريم.. ولكنها ليست آية من كل سورة ما عدا فاتحة الكتاب فهي آية من الفاتحة.. وهناك سورة واحدة في القرآن الكريم لا تبدأ ب {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} وهي سورة التوبة وتكررت بسم الله الرحمن الرحيم في الآية 30 من سورة النمل في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}
فاتحة الكتاب هي أم الكتاب، لا تصلح الصلاة بدونها، فأنت في كل ركعة تستطيع أن تقرأ آية من القرآن الكريم، تختلف عن الآية التي قرأتها في الركعة السابقة، وتختلف عن الآيات التي قرأتها في صلواتك.. ولكن إذا لم تقرأ الفاتحة فسدت الصلاة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تام» أي غير صالحة.
فالفاتحة أم الكتاب التي لا تصلح الصلاة بدونها، والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل.. فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين. قال الله عز وجل حمدني عبدي. فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، فإذا قال مالك يوم الدين، قال الله عز وجل مجدني عبدي.. فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عز وجل هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.. وإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
وعلينا أن نتنبه ونحن نقرأ هذا الحديث القدسي ان الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، ولم يقل قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي، ففاتحة الكتاب هي أساس الصلاة، وهي أم الكتاب.
نلاحظ ان هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في بسم الله الرحمن الرحيم، وفي فاتحة الكتاب، وهذه الاسماء هي: الله. والرحمن والرحيم. نقول أن ليس هناك تكرار في القرآن الكريم، وإذا تكرر اللفظ يكون معناه في كل مرة مختلفا عن معناه في المرة السابقة، لأن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى.. ولذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح، وفي معناه الصحيح.
قولنا: {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء.. إذن فلفظ الجلالة {الله} في بسم الله، معناه الاستعانة بقدرات الله سبحانه وتعالى وصفاته. لتكون عونا لنا على ما نفعل. ولكن إذا قلنا: الحمد لله.. فهي شكر لله على ما فعل لنا. ذلك اننا لا نستطيع أن نقدم الشكر لله إلا إذا استخدمنا لفظ الجلالة. الجامع لكل صفات الله تعالى. لأننا نحمده على كل صفاته ورحمته بنا حتى لا نقول باسم القهار وباسم الوهاب وباسم الكريم، وباسم الرحمن.. نقول الحمد لله على كمال صفاته، فيشمل الحمد كمال الصفات كلها.
وهناك فرق بين {بِسْمِ الله} الذي نستعين به على ما لا قدرة لنا عليه.. لأن الله هو الذي سخر كل ما في الكون، وجعله يخدمنا، وبين {الحمد للَّهِ} فإن لفظ الجلالة إنما جاء هنا لنحمد الله على ما فعل لنا.
فكأن (بسم الله في البسملة) طلب العون من الله بكل كمال صفاته.. وكأن الحمد لله في الفاتحة تقديم الشكر لله بكل كمال صفاته.
و{الرحمن الرحيم} في البسملة لها معنى غير {الرحمن الرحيم} في الفاتحة، ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله سبحانه وتعالى وغفرانه حتى لا نستحي ولا نهاب أن نستعين باسم الله ان كنا قد فعلنا معصية.. فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نستعين باسمه دائما في كل اعمالنا. فإذا سقط واحد منا في معصية، قال كيف استعين باسم الله، وقد عصيته؟ نقول له ادخل عليه سبحانك وتعالى من باب الرحمة.. فيغفر لك وتستعين به فيجيبك.
وانت حين تسقط في معصية تستعيذ برحمة الله من عدله، لأن عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها.
وأقرأ قول الله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] ولولا رحمة الله التي سبقت عدله. ما بقي للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض.. فالله جل جلاله يقول: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] فالانسان خلق ضعيفا، وخلق هلوعا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، قالوا: حتى أنت يا رسول الله قال: حتى أنا».
فذنوب الانسان في الدنيا كثيرة.. إذا حكم فقد يظلم. وإذا ظن فقد يسئ.. وإذا تحدث فقد يكذب.. وإذا شهد فقد يبتعد عن الحق.. وإذا تكلم فقد يغتاب.
هذه ذنوب نرتكبها بدرجات متفاوتة. ولا يمكن لأحد منا ان ينسب الكمال لنفسه حتى الذين يبذلون اقصى جهدهم في الطاعة لا يصلون الى الكمال، فالكمال لله وحده. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
ويصف الله سبحانه وتعالى الانسان في القرآن الكريم: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى ألا تمنعنا المعصية عن ان ندخل الى كل عمل باسم الله.. فعلمنا أن نقول: {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} لكي نعرف أن الباب مفتوح للاستعانة بالله. وأن المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله.. لأنه رحمن رحيم، فيكون الله قد أزال وحشتك من المعصية في الاستعانة به سبحانه وتعالى.
ولكن الرحمن الرحيم في الفاتحة مقترنة برب العالمين، الذي أوجدك من عدم.. وأمدك بنعم لا تعد ولا تحصى. انت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته، ذلك أن الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة.
والله سبحانه وتعالى رب للمؤمن والكافر، فهو الذي استدعاهم جميعا الى الوجود. ولذلك فإنه يعطيهم من النعم برحمته.. وليس بما يستحقون.. فالشمس تشرق على المؤمن والكافر.. ولا تحجب أشعتها عن الكافر وتعطيها للمؤمن فقط، والمطر ينزل على من يعبدون الله. ومن يعبدون أوثانا من دون الله. والهواء يتنفسه من قال لا إله إلا الله ومن لم يقلها.
وكل النعم التي هي من عطاء الربوبية لله هي في الدنيا لخلقه جميعا، وهذه رحمة.. فالله رب الجميع من أطاعه ومن عصاه. وهذه رحمة، والله قابل للتوبة، وهذه رحمة.
إذن ففي الفاتحة تأتي {الرحمن الرحيم} بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه، فهو يمهل العاصي ويفتح ابواب التوبة لكل من يلجأ اليه.
وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه. وهذه رحمة تستوجب الشكر. فمعنى {الرحمن الرحيم} في البسملة يختلف عنها في الفاتحة. فإذا انتقلنا بعد ذلك الي قوله تعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} فالله محمود لذاته ومحمود لصفاته، ومحمود لنعمه، ومحمود لرحمته، ومحمود لمنهجه، ومحمود لقضائه، الله محمود قبل ان يخلق من يحمده. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الشكر له في كلمتين اثنتين هما الحمد لله.
والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات وساعات.. تعد كلمات الشكر والثناء، وتحذف وتضيف وتأخذ رأي الناس. حتى تصل الى قصيدة أو خطاب ملئ بالثناء والشكر. ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته نعمه لا تعد ولا تحصى، علمنا أن نشكره في كلمتين اثنتين هما: الحمد لله.
ولعلنا نفهم ان المبالغة في الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الانسان بالغرور والنفاق وتزيد العاصي في معاصيه.. فلنقلل من الشكر والثناء للبشر.. لأننا نشكر الله لعظيم نعمه علينا بكلمتين هما: الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد. فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين.. لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الالهي.. فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة على التعبير. فهم عاجزون على أن يصلوا الى صيغة الحمد التي تليق بجلال المنعم.. فكيف نحمد الله والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصي نعمه أو يحيط برحمته؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا صورة العجز البشري عن حمد كمال الالوهية لله، فقال: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير. فهذا أمي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله. وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع ان يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. وهكذا تتفاوت درجات البشر في الحمد.. طبقا لقدرتهم في منازل الدنيا.
ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له.. فيعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم.. أن نقول {الحمد للَّهِ} ليعطي الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوي المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام.
ولذلك فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى على أنه علمنا كيف نحمده وليظل العبد دائما حامدا. ويظل الله دائما محمودا.. فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا خلق لنا موجبات الحمد من النعم، فخلق لنا السماوات والارض وأوجد لنا الماء والهواء. ووضع في الأرض أقواتها الى يوم القيامة.. وهذه نعمة يستحق الحمد عليها لأنه جل جلاله جعل النعمة تسبق الوجود الانساني، فعندما خلق الانسان كانت النعمة موجودة تستقبله. بل ان الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم أبا البشر جميعا سبقته الجنة التي عاش فيها لا يتعب ولا يشقى. فقد خلق فوجد ما يأكله وما يشربه وما يقيم حياته وما يتمتع به موجودا وجاهزا ومعدا قبل الخلق.. وحينما نزل آدم وحواء الى الأرض كانت النعمة قد سبقتهما. فوجدا ما يأكلانه وما يشربانه، وما يقيم حياتهما.. ولو أن النعمة لم تسبق الوجود الانساني وخلقت بعده لهلك الانسان وهو ينتظر مجيء النعمة.
بل ان العطاء الالهي للانسان يعطيه النعمة بمجرد أن يخلق في رحم أمه فيجد رحما مستعدا لاستقباله وغذاء يكفيه طول مدة الحمل. فاذا خرج الى الدنيا يضع الله في صدر أمه لبنا ينزل وقت أن يجوع ويمتنع وقت أن يشبع. وينتهي تماما عندما تتوقف فترة الرضاعة. ويجد أبا وأما يوفران له مقومات حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه.. وكل هذا يحدث قبل ان يصل الانسان إلى مرحلة التكليف وقبل أن يستطيع ان ينطق: {الحمد للَّهِ}.
وهكذا نرى أن النعمة تسبق الْمُنْعَمَ عليه دائما.. فالانسانَ حيث يقول (الحمد لله) فلأن موجبات الحمد وهي النعمة موجودة في الكون قبل الوجود الانساني.
والله سبحانه وتعالى خلق لنا في هذا الكون أشياء تعطي الانسان بغير قدرة منه ودون خضوع له، والانسان عاجز عن أن يقدم لنفسه هذه النعم التي يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد.
فالشمس تعطي الدفء والحياة للارض بلا مقابل وبلا فعل من البشر، والمطر ينزل من السماء دون ان يكون لك جهد فيه أو قدرة على إنزاله. والهواء موجود حولك في كل مكان تتنفس منه دون جهد منك ولا قدرة. والأرض تعطيك الثمر بمجرد أن تبذر فيها الحب وتسقيه.. فالزرع ينبت بقدرة الله.. والليل والنهار يتعاقبان حتى تستطيع أن تنام لترتاح، وأن تسعى لحياتك.. لا أنت أتيت بضوء النهار، ولا أنت الذي صنعت ظلمة الليل، ولكنك تأخذ الراحة في الليل والعمل في النهار بقدرة الله دون أن تفعل شيئا.
كل هذه الاشياء لم يخلقها الانسان، ولكنه خلق ليجدها في الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه. ألا تستحق أن نقول الحمد لله على نعمة تسخير الكون لخدمة الانسان؟ إنها تقتضي وجوب الحمد.
وآيات الله سبحانه وتعالى في كونه تستوجب الحمد.. فالحياة التي وهبها الله لنا، والآيات التي أودعها في كونه لتدلنا على أن لهذا الكون خالقاً عظيماً. فالكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه وكل ما فيه مما يفوق قدرة الانسان.. ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه. فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعي أنه خلق الشمس أو أوجد النجوم أو وضع الأرض أو وضع قوانين الكون أو أعطى غلافها الجوي.. أو خلق نفسه أو خلق غيره.
هذه الآيات كلها أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى، وهي التي أوجدت وهي التي خلقت.. وهذه الآيات ليست ساكنة، لتجعلنا في سكونها ننساها، بل هي متحركة لتلفتنا الي خالق هذا الكون العظيم.
فالشمس تشرق في الصباح فتذكرنا باعجاز الخلق، وتغيب في المساء لتذكرنا بعظمة الخالق.. وتعاقب الليل والنهار يحدث أمامنا كل يوم علمنا نلتفت ونفيق.. والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله.. والزرع يخرج من الأرض يسقي بماء واحد. ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة، وله تكوين يختلف عن الآخر، ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع.. ويأتي موسم الزراعة فيعود من جديد.
كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا اذا نسينا، ويعلمنا أن هناك خالقاً عظيماً.
ونستطيع أن نمضي في ذلك بلا نهاية فنعم الله لا تعد ولا تحصى.. وكل واحدة منها تدلنا على وجود الحق سبحانه وتعالى، وتعطينا الدليل الايماني على ان لهذا الكون خالقاً مبدعاً.. وانه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق ما فيه.. فالقضية محسومة لله.. و{الحمد للَّهِ} لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري ثم أيده بإيمان عقلي بآياته في كونه.
بل إن كل شيء في هذا الكون يقتضي الحمد، ومع ذلك فإن الانسان يمتدح الوجود وينسى الموجود!! فأنت حين ترى زهرة جميلة مثلا أو زهرة غاية في الإبداع.
أو أي خلق من خلق الله يشيع في نفسك الجمال تمتدح هذا الخلق.. فتقول: ما أجمل هذه الزهرة أو هذه الجوهرة أو هذا المخلوق.. ولكن المخلوق الذي امتدحته، لم يعط صفة الجمال لنفسه.. فالزهرة لا دخل لها أن تكون جميلة أو غير جميلة، والجوهرة لا دخل لها في عظمة خلقها.. وكل شيء في هذا الكون لم يضع الجمال لنفسه وانما الذي وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا نخلط ونمدح المخلوق وننسى الخالق.. بل قل: الحمد لله الذي أوجد في الكون ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة الخلق.
ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد، لان الله أنزل منهجه ليرينا طريق الخير ويبعدنا عن طريق الشر.
فمنهج الله الذي أنزله على رسله قد عرفنا ان الله تبارك وتعالى هو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا.. فدقة الخلق وعظمته تدلنا على أن هناك خالقاً عظيماً.. ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا يريد منا. ولذلك أرسل الله رسله، ليقولوا لنا إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تبارك وتعالى وهذا يستوجب الحمد.
ومنهج الله بين لنا ماذا يريد الحق منا، وكيف نعبده.. وهذا يستوجب الحمد. ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا اسلوب حياتنا تشريعاً حقاً.. فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا.. ولا يفضل أحداً على احد إلا بالتقوى، فكلنا خلق متساوون أمام الله جل جلاله.
إذن: فشريعة الحق، وقول الحق، وقضاء الحق، هو من الله، أما تشريعات الناس فلها هوى، تميز بعضا عن بعض.. وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين، لذلك نجد في كل منهج بشرى ظلما بشريا.
فالدول الشيوعية أعضاء اللجنة المركزية فيها هم أصحاب النعمة والترف. بينما الشعب كله في شقاء.. لأن هؤلاء الذي شرعوا اتبعوا هواهم. ووضعوا مصالحهم فوق كل مصلحة.. وكذلك في الدول الرأسمالية. أصحاب رأس المال يأخذون كل الخير. ولكن الله سبحانه وتعالى حين نزل لنا المنهج قضى بالعدل بين الناس.. وأعطى كل ذي حق حقه. وعلمنا كيف تستقيم الحياة على الأرض عندما تكون بعيدة عن الهوى البشري خاضعة لعدل الله، وهذا يوجب الحمد.
والحق سبحانه وتعالى، يستحق منا الحمد لأنه لا يأخذ منا ولكنه يعطينا. فالبشر في كل عصر يحاولون استغلال البشر.. لأنهم يطمعون لما في ايديهم من ثروات وأموال، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج الى ما في أيدينا، إنه يعطينا ولا يأخذ منا، عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء لخلقه، والخلق يأخذون دائما من نعم الله، فكأن العبودية لله تعطيك ولا تأخذ منك وهذا يستوجب الحمد.
والله سبحانه وتعالى في عطائه يجب أن يطلب منه الإنسان، وأن يدعوه وان يستعين به، وهذا يتوجب الحمد لأنه يقينا الذل في الدنيا. فأنت إن طلبت شيئا من صاحب نفوذ، فلابد ان يحدد لك موعدا أو وقت الحديث ومدة المقابلة، وقد يضيق بك فيقف لينهي اللقاء.. ولكن الله سبحانه وتعالى بابه مفتوح دائما.. فأنت بين يديه عندما تريد، وترفع يديك الى السماء وتدعو وقتما تحب، وتسأل الله ما تشاء، فيعطيك ما تريده إن كان خيرا لك.. ويمنع عنك ما تريده ان كان شرا لك.
والله سبحانه وتعالى يطلب منك ان تدعوه وان تسأله فيقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] والله سبحانه وتعالى يعرف ما في نفسك، ولذلك فإنه يعطيك دون أن تسأل. واقرأ الحديث القدسي: يقول رب العزة: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين).
والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفد، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانه وتعالى، إذا أراد أن يحققه لك.
واقرأ قول الشاعر:
حسب نفسي عزا بأنني عبد *** يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن *** أنا ألقى متى وأين أحب
إذن: عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد.. ومنعه العطاء يستوجب الحمد.
ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد.. فالله يستحق الحمد لذاته، ولولا عدل الله لبغى الناس في الارض وظلموا، ولكن يد الله تبارك وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة.. فيخاف الناس الظلم.. وكل من أفلت من عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله في الاخرة ليوفيه حسابه.. وهذا يوجب الحمد.. أن يعرف المظلوم أنه سينال جزاءه فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه ان هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب في النار.. فلا تصيبه الحسرة، ويخف احساسه بمرارة الظلم حين يعرف ان الله قائم على كونه لن يفلت من عدله أحد.
وعندما نقول: {الحمد للَّهِ} فنحن نعبر عن انفعالات متعددة.. وهي في مجموعها تحمل العبودية والحب والثناء والشكر والعرفان.. وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس عندما تقول: (الحمد لله) كلها تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه.. هذه الانفعالات تأتي من النفس وتستقر في القلب.. ثم تفيض من الجوارح على الكون كله.
فالحمد ليس ألفاظا تردد باللسان، ولكنها تمر أولا على العقل ليعي معنى النعم.. ثم بعد ذلك تستقر في القلب فينفعل بها.. وتنتقل الي الجوارح فأقوم واصلي لله شاكرا ويهتز جسدي كله، وتفيض الدمعة من عيني.. وينتقل هذا الانفعال كله الي من حولي.
ونفسر ذلك قليلا.. هب انني في أزمة أو كرب أو شيء سيؤدي الي فضيحة.. وجاءني من يفرج كربي فيعطيني مالا أو يفتح لي طريقا.. أول شيء انني سأعقل هذا الجميل فأقول انه يستحق الشكر.. ثم ينزل هذا المعنى الي قلبي فيهتز القلب الي صانع هذا الجميل.. ثم تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلي عمل يرضيه على جميل صنعه. ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه فيسارعون إلي الالتجاء اليه.. فتتسع دائرة الحمد وتنزل النعم على الناس.. فيمرون بنفس ما حدث لي فتتسع دائرة الشكر والحمد.
والحمد لله تعطينا المزيد من نعم الله مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وهكذا نعرف ان الشكر على النعمة يعطينا مزيدا من النعمة.. فنشكر عليها فتعطينا المزيد وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة.. اننا لو استعرضنا حياتنا كلها فكل حركة فيها تقتضي الحمد، عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها الينا عندما نستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد، فالله سبحانه وتعالى يقول: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] وهكذا فإن مجرد استيقاظنا من النوم، وان الله سبحانه وتعالى رد علينا أرواحنا، وهذا الرد يستوجب الحمد، فإذا قمنا من السرير فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعطينا القدرة على الحركة، ولولا عطاؤه ما استطعنا ان نقوم.. وهذا يستوجب الحمد.. فإذا تناولنا افطارنا فالله هيأ لنا طعاما من فضله، فهو الذي خلقه، وهو الذي انبته، وهو الذي زرقنا به، وهذا يستوجب الحمد.
فإذا نزلنا الى الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا الى مقر اعمالنا وسخره لنا، سواء كنا نملك سيارة او نستخدم وسائل المواصلات، فله الحمد، واذا تحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالى هو الذي اعطى السنتنا القدرة على النطق ولو شاء لجعلها خرساء لا تنطق.. وهذا يستوجب الحمد، فإذا ذهبنا الى أعمالنا، فالله يسر لنا عملا نرتزق منه لنأكل حلالا.. وهذا يستوجب الحمد.
واذا عدنا الى بيوتنا فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا وهذا يستوجب الحمد.
اذن فكل حركة حياة في الدنيا من الانسان تستوجب الحمد.. ولهذا لابد ان يكون الانسان حامدا دائما.. بل ان الانسان يجب ان يحمد الله على اي مكروه أصابه؛ لأنه قد يكون الشيء الذي يعتبره شرا هو عينه الخير.
فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] اذن فأنت تحمد الله لأن قضاءه خير.. سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير لك.. لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلم.
وهكذا من موجبات الحمد أن تقول الحمد لله على كل ما يحدث لك في دنياك. فأنت بذلك ترد الامر الى الله الذي خلقك.. فهو أعلم بما هو خير لك.
فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله رب العالمين.. لماذا قال الله سبحانه وتعالى رب العالمين؟ نقول إن {الحمد للَّهِ} تعني حمد الألوهية. فكلمة الله تعني المعبود بحق.. فالعبادة تكليف والتكليف يأتي من الله لعبيده.. فكأن الحمد اولا لله.. ثم يقتضي بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله على ايجادنا من عدم وامدادنا من عدم.. لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس.. لكن التكليف يكون شاقا على بعض الناس.. ولو علم الناس قيمة التكليف في الحياة.. لحمدوا الله أن كلفهم بافعل ولا تفعل.. لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم.. فتمضي حركة الحياة متساندة منسجمة. اذن فالنعمة الاولى هي أن المعبود ابلغنا منهج عبادته، والنعمة الثانية أنه رب العالمين.
في الحياة الدنيا هناك المطيع والعاصي، والمؤمن وغير المؤمن.. والذين يدخلون في عطاء الالوهية هم المؤمنون.. أما عطاء الربوبية فيشمل الجميع.. ونحن نحمد الله على عطاء ألوهيته، ونحمد الله على عطاء ربوبيته، لأنه الذي خلق، ولأنه رب العالمين.. الكون كله لا يخرج عن حكمه.. فليطمئن الناس في الدنيا ان النعم مستمرة لهم بعطاء ربوبيه.. فلا الشمس تستطيع أن تغيب وتقول لن أشرق ولا النجوم تستطيع أن تصطدم بعضها ببعض في الكون، ولا الأرض تستطيع أن تمنع إنبات الزرع.. ولا الغلاف الجوي يستطيع أن يبتعد عن الأرض فيختنق الناس جميعا.
اذن فالله سبحانه وتعالى يريد ان يطمئن عباده انه رب لكل ما في الكون فلا تستطيع اى قوى تخدم الانسان ان تمتنع عن خدمته.. لأن الله سبحانه وتعالى مسيطر على كونه وعلى كل ما خلق.. انه رب العالمين وهذه توجب الحمد.. ان يهيئ الله سبحانه وتعالى للانسان ما يخدمه، بل جعله سيدا في كونه.. ولذلك فإن الانسان المؤمن لا يخاف الغد.. وكيف يخافه والله رب العالمين. اذا لم يكن عنده طعام فهو واثق ان الله سيرزقه لأنه رب العالمين.
واذا صادفته ازمة فقلبه مطمئن الي ان الله سيفرج الازمة ويزيل الكرب لأنه رب العالمين.. واذا اصابته نعمة ذكر الله فشكره عليها لانه رب العالمين الذي انعم عليه.
فالحق سبحانه وتعالى يحمد على انه رب العالمين.. لا شيء في كونه يخرج عن مراده الفعلي.. اما عطاء الالوهية فجزاؤه في الاخرة.. فالدنيا دار اختبار للايمان، والاخرة دار الجزاء.. ومن الناس من لا يعبد الله.. هؤلاء متساوون في عطاء الربوبية مع المؤمنين في الدنيا.. ولكن في الآخرة يكون عطاء الالوهية للمؤمنين وحدهم.. فنعم الله لأصحاب الجنة، وعطاءات الله لمن آمن.. واقرأ قوله تبارك وتعالى. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] على ان الحمد لله ليس في الدنيا فقط.. بل هو في الدنيا والاخرة.. الله محمود دائما.. في الدنيا بعطاء ربوبيته لكل خلقه.. وعطاء الوهيته لمن آمن به وفي الاخرة بعطائه للمؤمنين من عباده.. واقرأ قوله جل جلاله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 74] وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] فاذا انتقلنا الى قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} فمن موجبات الحمد أن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم.. يعطي نعمه في الدنيا لكل عباده عطاء ربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن والكافر.. وعطاء الربوبية لا ينقطع الا عندما يموت الانسان.
والله لا يحجب نعمه عن عبيده في الدنيا.. ونعم الله لا تعد ولا تحصى ومع كل التقدم في الآلات الحاسبة والعقول الالكترونية وغير ذلك فإننا لم نجد أحدا يتقدم ويقول انا سأحصي نعم الله.. لأن موجبات الاحصاء ان تكون قادرا عليه.. فانت لا تقبل على عد شيء الا اذا كان في قدرتك ان تحصيه.. ولكن مادام ذلك خارج قدرتك وطاقاتك فانك لا تقبل عليه.. ولذلك لن يقبل احد حتى يوم القيامة على احصاء نعم الله تبارك وتعالى لان احدا لا يمكن ان يحصيها.
ولابد ان نلتفت الى ان الكون كله يضيق بالانسان، وان العالم المقهور الذي يخدمنا بحكم القهر والتسخير يضيق حين يرى العاصين.. لان المقهور مستقيم على منهج الله قهرا.. فحين يرى كل مقهور الانسان الذي هو خدمته عاصيا يضيق.
واقرأ الحديث القدسي لتعرف شيئا عن رحمة الله بعباده.. يقول الله عز وجل: (ما من يوم تطلع شمسه إلا وتنادي السماء تقول يا رب إئذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم؛ فقد طعم خيرك ومنع شكرك وتقول البحار يا رب إئذن لي أن أغرق ابن آدم ف